التلبيس صفة تعد كبيرة من الكبائر؛ لأنها تمنع أساسا من أسس الاجتماع البشري، وهو التفاهم المبني أساسا على الفهم، والفهم حتى يكون صحيحا يجب أن يكون صورة صحيحة للواقع، فإذا قام أحدهم بموجب ظاهرة صوتية يتكلم كلاما يخلط فيه الحق بالباطل، فإن هذا هو التلبيس بعينه، الذي يعطل الفهم، فيعطل التفاهم، فيعطل بعد ذلك البحث عن مشترك بين البشر، فيعطل مع هذا الاتفاق والائتلاف، ويدعو إلى النفاق والاختلاف، قال تعالى: (لِمَ تَلْبِسُونَ الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران:71].
ومن مظاهر تلبيس الحق بالباطل ذكر بعض الحقائق، وحذف بعضها الآخر بما يوجب أن يصل المعنى إلى السامع أو المتلقي على غير مراد المتكلم أو الكاتب، واجتزاء قبيح، له صور مختلفة، وضربوا له أمثالا منها اقتصار بعضهم وهو يتلو القرآن على وقف قبيح، كما لو قال: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) [النساء:43] والحقيقة أن النسبة لم تتم؛ حيث إن الله سبحانه وتعالى قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) [النساء:43]. أو يقول: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ) [الماعون:4]
والحقيقة أن الله سبحانه وتعالى قال: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) [الماعون:4 ، 5]. ففي الآية الأولى اكتفى بالنسبة الظاهرية، فحول الكلام إلى نهي عن الصلاة ولم ينظر إلى النسبة الحقيقية التي تنهى المصلي أن يصلي مع غياب عقله، والتي عللت لذلك بوجود علمه بما يقول حتى تحقق الصلاة غاياتها من كونها صلة بين العبد وربه، وفي الثانية حذف الصفة التي هي قيد في المسألة، ومع كثرة القيود يقل الموجود، فالويل إنما هو لمصل خاص يستهين بالصلاة ويتركها، ويجعلها في هامش حياته، لا في أساسها ولا في برنامجه اليومي كما هو شأن المسلمين الملتزمين بالإسلام.
ومنسوب إلى أبي نواس بيت من الشعر قد يكون قد حاول فيه أن يبرر لنفسه معصيته بما اشتهر عنه من مجون وحب لشرب الخمر:
ما قال ربك ويل للأولى سكروا
* ولكن قال ويل للمصلين
وهذا نوع من أنواع تداعي التلبيس الذي نهينا عنه.
إن ظاهرة التلبيس تختلف عن ظاهرة الكذب؛ لأنها دائما تذكر حقيقة أو حقائق تغلفها بأكاذيب.
ومن المعلوم أن علم العلاقات العامة قد اهتم في دراساته لأنواع الدعاية الثلاث: الدعاية البيضاء التي لا تشتمل إلا على الحقائق، والدعاية السوداء التي تشتمل على الأباطيل بصورة خالصة، والدعاية الرمادية [إن صح التعبير] والتي تخلط بين الحقائق والأباطيل، وبالتتبع وجد أن الدعاية الرمادية أشد تأثيرا في الناس، وأن الناس أكثر استجابة لها من الدعاية البيضاء والسوداء، ولكنها بما اشتملت عليه من أباطيل تكون قد خدعت جمهورها، وإن حققت المصالح المادية من مبيعات أكثر للمنتجات.
إن الدعاية الرمادية تشبه إلى حد كبير في المعنى النفاق، الذي يلبس بين الإيمان والكفر، فالمؤمن واضح في دعواه، وفي إيمانه يعلنه أمام الناس، ويصدق به أمام نفسه، والكافر كذلك يعلن عقيدته أمام الناس وأمام نفسه من غير مواربة أو خداع، في حين أن المنافق لا تعرف له أساسا، يراوغ (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) [البقرة:14]. فلم يكن قاسيا ولا عنيفا أن يحذر المنافقون من أن نفاقهم يستوجب أشد أنواع العقاب والعذاب (إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) [النساء:145].