السلام عليكم و رحمة الله
أخيرا ... انتهيت منها ... انها "عزازيل" ... لكاتبها الدكتور يوسف زيدان
تلك الرواية التي ابتعتها منذ فتره في رحلة عودة بالقطار ... لكني لم استطع اكمالها نظرا لدخولي في قصة اخري مع زميلة سفر امريكية .... كتبت عنها في مدونتي موضوعا علي بعد خطوات من هذا الموضوع .... كما ان الانتهاء منها لم يكن يسيرا لطولها و احتياجها من الصفاء الذهني ما تحتاج ...
الروايه مكتوبه بلغه بديعه و باسلوب ادبي ذهبي متألق متأنق ... اخترق - كاتبها - فيها و بها ... عالما... لسنا - نحن المسلمون - ملمين به كثيرا ...
العالم الكنسي بما فيه من دهاليز و تفاصيل و رهبنة و هرطقات ... !
تلك الرواية التي استند فيها "كاتبها" الي وقائع تاريخيه كنسية قديمه في عصر ما قبل الاسلام منقولة عن مخطوطات اثرية قال انها حقيقة ... و لم لا و هو الاستاذ في الفلسفة الاسلامية .... و هو العالم الخبير في المخطوطات ...
اسرتني الروايه منذ اللحظة الاولي .... و اخذت ارتشف منها كلما سمحت لي الاقدار بمساحة من زمن اقتنصته لنفسي فأخلوا بها ... حتي وصلت الي شاطئ دفة النهاية ... في النهاية
هذه الرواية صدرت اول ما صدرت في عام 2008 ....و طبع منها حتي كتابة هذه السطور 26 طبعه ... حظيت بقراءة نسخه من تلك الطبعة الاخيرة ... لكني كنت قد سمعت عنها ... فاذكر جيدا اني تابعت لفترة قصيرة مقالات لكاتبها البديع الدكتور يوسف زيدان في جريدة "المصري اليوم" و كان يرد علي بعض رجال الدين المسيحي الذين دخلوا معه في سجال تاريخي حول الرواية ... لكني وقتها ما كنت متفهما لمفردات هذا السجال ... و ان كنت قد اتخذت قرارا بقراءتها يوما ما ... تم تنفيذه بالصدفه هذه الايام ..
بدأ الكاتب روايته علي ما يبدو "بخدعه" مكرره فقد ذكر في مقدمتها ان الرواية مترجمة عن "السريانية" و هي لغة قديمه ... و انها وُجدت في صندوق محكم الاغلاق في احدي ضواحي حلب بسوريا .... و ان تلك المخطوطات علي قدمها كانت سليمة واضحه ! و ارجع الكاتب - الذي وصف نفسه بالمترجم - لكون حبرها من ذلك النوع الفاخر الذي لا يزول مع زوال الايام ...
اقول خدعه ... لاني حتي انتهائي من الروايه كنت مقتنعا تمام الاقتناع بان هذا العمل البديع ما هو الا ترجمة امينة - كما قال الكاتب في مقدمة روايته - لنص اصلي قديم وجد في صندوق اشد قدما .... لكني بالبحث و التنقيب علي الانترنت في المصادر هنا و هناك .. لاحظت ان هذا ما هو الا اسلوب ادبي يستخدمه كبار الكتاب عالميا ... فيوحون للقارئ بانها قصة حقيقيه ... بالاضافه الي تصريح لاحق للكاتب بذلك في احد البرامج الفضائية ..
لم يغير اكتشافي هذا ابدا ... من اعجابي بل انبهاري بالرواية و اسلوبها ... و اداء كاتبها الرشيق ... بل و ببطلها الكاهن المصري "هيبا" ... الذي جرت علي يديه احداثها فوثقت جانبا من التاريخ القديم ... كان يجب ان نكون ملمين ببعضه لانه يضئ لنا المستقبل ببعض الومضات الكاشفه ...
من المغانم التي فزت بها من هذه الرواية .. قصة عالمة الرياضيات السكندرية "هيباتيا" ... تلك العالمه الجميله الفذه التي قتلها السكندريون بوحشية لمجرد اعتراض الكنيسة علي "هرطقتها" ... فكانت علوم الرياضيات و الهندسه رجز من عمل "عزازيل" .... حينها !!
نسيت ان اقول لكم ان عنوانها " عزازيل" اشارة الي الشيطان ... الذي لازم "هيبا" بطل القصه ... و دفعه دفعا الي ان يسجل لحظات حياته في رواية "زيدان" .. تلك التحفة الادبية البديعه ... و نسيت ان اخبركم ان "هيبا" سمي نفسه بهذا الاسم تيمنا بهيباتيا ... التي عشقها من وراء ستار لكن دونما خطيئه مثلما فعل مع كل الحبيبات التي صادفهن في "عزازيله" ...
من الاحاسيس التي شعرت بها اثناء الاستمتاع بالقراءة ان هذه الرواية اسقاط علي ما يحدث في كل زمان و مكان .... من تلك المعضلة الضخمه المتمثله في الصراع ما بين السلطه الدينية و السلطه العلميه .... فدائما رجال الدين ايما كانت دياناتهم يصارعون المعارف و العلوم حتي تظل سطوتهم السلطويه قائمة علي رقاب العباد .... و كأن اماطة الجهل عن العقول قد يطيح بتلك السلطه الوهمية البعيدة في الاساس عن فلسفة الدين .....
هو نفسه ما يحدث الان من انقياد للبشر بزعم الدفاع عن الدين ... و بزعم الشهادة في سبيل الدين .... فهذا هو الوقود الصالح دائما و ابدا ....
قتلوا "هيباتيا" عالمة الرياضيات و الفلسفه .... لانهم وصفوها "بالكافرة" ... تماما كما يحدث اليوم و يوصف الكثيرون بنفس الصفة الفارغه من معانيها ...
اعود للروايه البديعه ... و التي ابدع كاتبها "المسلم" في الغوص في عمق اللاهوت المسيحي كأنه ولد راهبا و عاش في واد النطرون سنين ليست بالقليلة .... لدرجة ان مطرانا اسمه يوحنا جريجوريوس قال عن الرواية انها تعطي حلولا لمشكلات كنسية كبري ....
فقد كان اختيار الخصائص الشخصيه لبطل القصه المصري الراهب "هيبا" ... ابداعا في حد ذاته فقد كان طبيبا شاعرا ... شبه يتيم ... يسافر الي هنا و هناك للبحث عن اصل الديانة ... فسافر الي الاسكندرية "المدينة العظمي" ثم الي القدس ثم الي انطاكيا ... و خلال اسفاره ... كان التاريخ الكنسي القديم يعرض بشئ من الابداع الفلسفي رفيع المستوي علي قارئ مستمتع ... و لعله تحفظ بسيط ... او قل انها ملاحظه مكرره تجدها في معظم الكتاب الكبار ... هو تناولهم للعلاقات الجنسية بشئ من التفصيل اللذيذ ! ... فقد وقع بطل قصة "عزازيل" الراهب "هيبا" في الخطيئة مرتين ...مرة مع "اوكتافيا" و مرة مع " مارتا" ... و في المرتين افاض الكاتب في وصف العلاقه الجنسيه بينهما وصفا حسيا قاسيا علي أي قارئ شاب غير "مترهبن" ! ... لكنه علي أي حال لا يمكن وصف ذلك بخطيئة الخروج الصريح عن النمط الاخلاقي ... فالاسلوب علي اية حال كان بديعا راقيا منمقا متألقا ... و كما يقول السينمائيون ... جاء ليخدم النسق "الدرامي " للروايه ...
ما يعنيني كقارئ "مسلم" ... ان الروايه مريحي لي بالكلية ... فالبرغم انها وثقت لتلك الخلافات الفلسفية بين المذاهب المسيحيه .... حول علاقة الله "جل في علاه" ... بالمسيح "الانسان" و اختلاف التعاريف حول ذلك ... و لسنا بصدد تناولها هنا .... الا انها اوحت في نهايتها - اقصد الروايه - ان تلك الامور فيها من الخلاف ما قد يرقي الي ضرورة اعادة التفكير بالمنطق و المنهج العلمي حول تلك التعريفات عن تلك "العلاقه" ....
و لعل الاسلام جاء لينهي للمسلمين كليا تلك القضيه ... لكنها لا زالت عند غير المسلمين "قضيه" ... !
هذه الروايه علي ما يبدو تعرضت لنقد لاذع من رموز مسيحيه كثيرة .... لدرجة ان احدهم قال ان الرواية جاءت لتهدم الديانة المسيحية ... كما ان كتبا ذات عناوين قادحه تم تأليفها للرد عليها ... بالاضافة الي عشرات المقالات اللاذعه التي نشرت هنا و هناك لدحض ما جاء في الروايه ... فلسفة و تاريخا ....
لا يهم ... فهي ستظل تحفه ادبية ابديه ... و لو كان الامر بيدي لكانت "نوبل في الاداب" هي اقل ما يمكن منحه "لزيدان" ... لكني لا اعتقد حدوث ذلك لاسباب اعتقد انكم تعرفونها الان ...
ادعوكم لقراءتها ... فهي تستحق ...
تحياتي