عجيب أمر هذا الرجل، وعجيبة هي علاقته بالكتب، وقد يحار المرء أمام التاريخ، ويتساءل هل يعيد نفسه؟ هل يعيد لنا صورة الجاحظ الأسطورية في حبه وعشقه وهيامه بالكتب في صورة ذلك الذي عرف في تاريخنا الحديث باسم العملاق أو الكاتب الجبار.
كان هذا الرجل أعجوبة الدهر في القراءة ومعرفة أسرار الكتب، والوقوف على خزائنها ومجاهلها وجديدها وبواكيرها، وفي الوقت الذي يعثر فيه الإنسان على كتاب نادر أو يقف من تطوافه في أرجاء الأرض على كتاب جديد في بلد من البلدان، ويظن أنه أسبق الناس إليه والعلم به، فيباهي منتشيا بذلك، وهو يخبر الناس كما يظن بما جهلوه، تأتي الضربة التي تفيقه من الأستاذ العقاد، بأنه يعرف الكتاب ويملك منه نسخة في مكتبة، حتى يسقط في ديك وتفتح فمك فاغرا من فرط الدهشة، إذ كيف وصل هذا الرجل إلى مثل تلك الأسرار ، وكيف طالت يده هذه الكتاب من الأوطان البعيدة، وهو حبيس القاهرة؟!
ويحكي الكاتب الراحل (أنيس منصور) في كتابه (في صالون العقاد كانت لنا أيام) أنه أراد ذات يوم أن يثبت للعقاد، أنه لم يقرأ كل شيء ولا يعرف كل شيء وخصوصًا في الفلسفة الوجودية، وهي تخصص أنيس منصور، وقام متباهيًا بذكر أسماء الكتب التي قرأها الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر، فسأله العقاد: كم كتابًا له عندك؟ فقال أنيس: كل الكتب التي ترجمت إلى الإنجليزية وهما كتابان، فضحك العقاد ونادى خادمه وقال: هات الكتب الملقاة على السرير، فكانت المفاجأة، بأن جاء الخادم بسبعة كتب للفيلسوف الألماني، وضحك العقاد ليقول: كل شيء موجود هنا يا مولانا، إنني أطلب الكتب وهي في المطبعة.!
ويذكر عبد العزيز العقاد ابن شقيقه أن الأستاذ محمد حسنين هيكل، حضر الصالون ذات مرة وأجلسه العقاد بجواره، وتحدث هيكل معلنا صدور كتاب جديد في دور النشر بأوروبا لم يصل إلى مصر بعد. هذا الكتاب اصطحبه الأستاذ هيكل معه وكان يتحدث عن لغة الطيور وأصواتها وتفرد كل طير بنغمات تختلف عن الطير الآخر.. وفاجأ العقاد الجميع قائلاً إن هذا الكتاب ليس بجديد فقد اقتنيته وقد التحقت به أسطوانة خاصة منذ عامين.. وطلب العقاد من ابن أخيه المرحوم عامر العقاد أن يحضر الكتاب والأسطوانة من مكتبته وعين له مكانه وطلب منه أن يدير الأسطوانة على الفونوغراف فسمع الحاضرون أصوات الطيور، البلبل والكروان والعصفور.. وشرح الأستاذ العقاد تغير نغمات كل طائر، وكيف نفرق بينها، وذلك وسط دهشة الأستاذ هيكل وكل الحاضرين بالندوة!
وبخصوص الكتب نرى الدكتور لويس عوض يثير حديثا حول كتب العقاد لم نسترح له أو لعله جهل أشياء قد غابت عنه لا في شخص العقاد ذاته ولكن في كل من عرف بحب الكتب.. يقول الدكتور لويس عوض: " وقد نشر الجهال من عشاق العقاد عن العقاد الأساطير نظرًا لسعة علمه ودأبه على القراءة والعمل، فقالوا إنه يشترى كل شهر كتبًا بخمسين أو مائة جنيه بانتظام، وقالوا إن مكتبته تحوى خمسين ألف مجلد وهم بالطبع حينما ينشرون هذه الأقوال عن العقاد إنما يبغون التنويه بسعة علمه وهم لا يفهمون أن فى هذه الأقوال إساءة للعقاد لا ثناء عليه. فخمسون جنيهًا أو مائة جنيه شهريًا ميزانية للكتب معناها بين ثلاثين وستين كتابًا جديدًا فى المتوسط أى ما معدله كتاب أو كتابان يوميًا. وما من أحد يستطيع أن يقرأ كتابًا جادًا أو كتابين جادين يوميًا بمختلف اللغات إلا إذا كانت قراءته مجرد تصفح وتعرف عام. فهذا القول إذن يظهر العقاد لا فى صورة العالم العلامة ولكن يظهره فى صورة قارئ الفهارس والعناوين. كذلك لا أحسبه إطراء لأديب أو عالم أن تقول إن فى مكتبته الخاصة خمسين ألف مجلد، فمثل هذا العدد من الكتب لا يحسن أن يوجد إلا فى دكان وراق أو فى مكتبة من المكتبات العامة. فإن وجد فى مكتبة خاصة فمعناه أن صاحبها يكدس المراجع فى داره عشرات السنين دون أن يقرأها. وقياس الثقافة بالأحجام أو وزنها على القبان يضر أكثر مما ينفع. ويكفى أن يكون فى مكتبة عالم أو أديب خُمس هذا العدد من المراجع المنتقاة أو حتى عُشره لنقول إنه زاد وأوفى.
"
وهنا نناقش الدكتور لويس عوض لنقول ، ما العيب أن تضم مكتبة العقاد 100 ألف أو 200 ألف كتاب، ليس شرطا أن يقرأها كلها، أنسي الدكتور لويس أن إدمان القراءة إذا كحل في أي إنسان يسوقه لشراء الكتب دون وعي أن حساب، لتصير عنده شهوة جارفة في اقتناء كل ما سمع عنه من كتب؟
هل معنى أن كتب العقاد بلغت هذا المبلغ أن تكون كلها قد قرأها؟ ليس شرطا ربما دفعه إلى شراء أكثرها حبه وغرامه بالكتب.
وما رأي الدكتور لويس في هذا الحوار الذي سجل مع عبد العزيز العقاد ابن شقيقه في الأهرام عدد الجمعة 21 من ربيع الثاني 1440 هــ 28 ديسمبر 2018 السنة 143 العدد 48234 وقد قال فيه: " عندما توفى العقاد تقدمت حكومة دولة الكويت بعرض لشراء مكتبة العقاد التى تبين أنها تضم 40 ألف كتاب من أمهات الكتب النادرة بمبلغ 10 آلاف جنيه استرلينى وذلك فى عام 1964، لكننا سلمنا المكتبة لوزارة الثقافة، وهى موجودة الآن بالدور الثالث بالهيئة المصرية العامة للكتاب بجوار مكتبة الدكتور طه حسين" ليس شرطا لوجود هذه الآلاف المؤلفة أن تكون كلها قد وقعت تحت سطوة القراءة.
والقراءة عند العقاد فاقت الرغبة والتخصص والميل، لقد صار يقرأ في كل شيء، يألفه أو لا يألفه، يستهويه أو لا يستهويه، فما دام الكلام مسطورا في ورق، فهو في مرمى العقاد، حتى الكتب التافهة يقرأها ولما سئل عن ذلك قال: " لأعرف كيف يفكر التافهون"
لقد كان الشيخ علي الطنطاوي آية الله في القراءة ورغم هذا فهو يعترف أن العقاد كان أقرأ منه إذ يقول: " قلتُ : ومن يقرأُ أكثر مني ؟ أنا من سبعين سنةِ إلى الآن ، من يوم كنتُ صبياً ، أقرأُ كلَّ يومٍ مئةَ صفحة على الأقل ،وأقرأُ أحياناً ثلاث مئة أو أكثر ، ما لي عمل إلا القراءة ، لا أقطعها إلا أن أكون مريضاً أو على سفرٍ ، فاحسبوا كم صفحة قرأتُ في عمري . لقد قرأتُ أكثرَ من نصفِ مليون صفحة وأعرفُ من قرأ أكثر مني كالأستاذ العقاد والأمير شكيب أرسلان ومحمد كرد علي ومحب الدين الخطيب رحمهم الله "
وتندر الحكيم يوما في وصفه وتخيله له في بعض كتبه، بأنه دخل الجنة وذهب يطوف في أرجائها، عسى أن يرى وجهة مكتبة يقف أمامها، ويتأمل عناوين الكتب فيها، فلما طال به المطاف ولم يجد مكتبة ولا كتبًا ضجر منها وطفق يقول : ما هذا ؟.. جنة بلا كتب؟
وعلق على هذا بقوله: (إن الحكيم صادق في تخيله، لأنني فعلا لا أستطيع أن أعيش في جنة لا أطلع فيها.. نعم لا أطلع فيها وليس من الضروري أن أقرأ، فالقراءة هي إحدى صور الاطلاع)
رحم الله ساحر الكتب.