صباح الخير سيدتي.. لم يعد مهما ان اكتب اسمي لم يعد لاي شئ قيمة كبيرة, اختاري لي أي اسم واكتبيه مع قصتي, أنا فقط أريد أن يسمعني الناس وأريد أن أعرف أجابة لسؤالي.. ربما يجيبني أحدكم: لماذا قل الحب والوفاء في الدنيا لهذه الدرجة؟
لم اكن اتوقع ابدا ان تمضي حياتي في هذا الاتجاه, لم أكن أعرف اننا ألعاب في يد الزمن والقدر إلي هذا الحد, ولا شئ في يدينا علي الاطلاق, من يقول انني( فريدة) الفتاة الجامعية الانيقة الرقيقة, التي عاشت مع والديها في الحي الراقي العريق ايام كانت القاهرة اهدأ وانظف من الآن بكثير. فريدة المدللة الجميلة تربية المدارس الفرنسية, و(الفرنسسكان الراهبات), لم نكن من الأثرياء, لكننا كنا الطبقة المتوسطة المتعلمة التي تحترم قواعد السلوك الراقي والتعليم الجيد وتكافح كي تنال اعلي الشهادات وتعمل في المناصب المرموقة..
درست في كلية الآداب قسم اللغة الفرنسية, وبعد تخرجي وعملي باحدي دور النشر الكبيرة, تعرفت علي شاب ذكي فارع الطول مثقف ولبق, كان صديقا لاحد زملائي في العمل وطالما اختلق الحجج كي يتردد علي مكتبنا, وبلطف شديد كان يختار الكلمات والموضوعات كي يفتح معي حوارا, ويتقرب لي, حتي تعارفنا وشعرت بانجذاب وراحة كبيرة نحو هذا الضيف الوسيم دائم الابتسام دائم الحجج..
ما أروع قصص الحب التي يساعدها النصيب ويكتب لها الله التوفيق, تقدم لي عصام وكان من اوائل الخريجين في دفعته بكلية التجارة ويعمل في احدي الشركات العملاقة للاغذية المعلبة, رحبت به عائلتي, وبعد خطبة دامت عامين تزوجنا بأقل التكاليف, في شقة ايجار لكنها كانت واسعة ورائعة وهي لاتزال حتي اليوم البيت والسكن وأعز مكان أشعر فيه برائحة الايام العزيزة واحس فيه بالاطمئنان.
عشت مع عصام حياة سعيدة بمعني الكلمة رغم ان دخلنا لم يكن كبيرا جدا, لكنني كنت ادبر منه مصاريف اولادنا الثلاثة في المدارس ويتبقي ما يكفي لبعض الترفيه واعياد ميلاد الصغار والسفر اوالمصيف وتكاليف بعض المناسبات والمجاملات العائليةالتي كنا نحرص عليها ونجدها التزاما يعطي للحياة دفئا ومعني.
ترقي زوجي وصار مديرا لشركة الاغذية الضخمة, التي كانت أيامنا هي الاسم الاول في السوق, وكانت من الاسماء التجارية التي يشار لها بالبنان, ووقتها كان ابني الكبير قد التحق بكلية الهندسة وابنتاي لاتزالان في المرحلة الثانوية.
أما انا فكنت( ست بيت ليس الا..) بعدما تركت عملي بناء علي طلب زوجي, وبكل حب وعن طيب خاطر, تفرغت سنوات متواصلة لبيتي وزوجي واولادي. وفي هذه الفترة التي قاربنا فيها علي الاسترخاء او حصاد العمل الطويل, مرض زوجي بأحد امراض الدم ودخل للعلاج في المستشفي تحت مظلة التأمين الصحي, لكن مرضه طال وتطور حتي وصل للفشل الكلوي الكامل, وصرنا من وقتها لا نراه الا في فراشه في المستشفي, صبر زوجي سنوات علي المرض ولم ينفد رغم المعاناة صبرنا, لكن غول المرض لم يرحمنا حتي نفد رصيدنا من العلاج علي نفقة الشركة الكبيرة وانفقنا من مالنا الخاص كل ما ادخرناه للزمن وفوقه مساعدات الاهل والمقربين وكل ما كان يجود به علينا صديق او حبيب,في مرات كثيرة كنت اوفر تكاليف بعض ايام زوجي في العناية المركزة من بيع ذهبي وبعض الاشياء ذات القيمة من اجهزة واثاث البيت
كل الغالي رخيص حتي يحيا زوجي حبيبي بيننا ولو اياما, وكل شيء كنت علي استعداد لعمله حتي لا اشعر انني قصرت في انقاذه من يد الالم والموت.
بكل طاقتي وقفت امام الريح القارصة ولم اندم ابدا, واليوم لو يعود بي الزمن ويقبل اياما وسنوات من عمري لدفعتها كي يمد الله من اجل ذلك الرجل العظيم الذي احتمل كثيرا جدا من الالم وكان يتحامل علي نفسه كي يبتسم في وجهي ويخفف عني حين يلقاني ويسألني وهو يحمل همي كيف ادبر مصاريف الحياة والعلاج؟ ثم يحدثني بحرارة كي اترك الامر لله ولا احمل نفسي او الاولاد اكثر من طاقتنا بسببه
يا حبيبي.. لمن تركتني؟ ومن لي الآن بعدك ؟ تعالي وانظر كيف انا الان؟ ما احقر الدنيا حين يغادرها الاحباب وحين يتربص بنا الاندال والسفلة عديمو المروءة والاحساس.
مات زوجي بعد عذاب طويل, ولم يكن مختلسا ولا لصا او نصابا, كان رجلا شريفا وعظيما, لذا رغم منصبه الكبير في شركة كبيرة تصدر الاغذية المصرية لكل انحاء العالم, لم يترك خلفه غير السمعة الطيبة ومعاش محدود. وفي نفس الوقت الذي لم يتخرج فيه اي احد من اولادي في الجامعة, كان لنا بيت شبه خال من الاثاث وعلينا ديون لعدد من الاقارب والاصدقاء, بعضهم اعتبرها معدومة, والباقي ابتعد عنا وتجنبنا كما يتجنب السليم المريض الاجرب, مخافة ان يتورطوا معنا في اي مساعدات نطلبها من اي نوع..
عندما كنت اعمل في دار النشر الكبيرة في مطلع شبابي قرأت كثيرا من الكتب والروايات تحكي عن طبع الايام وغدر الاصحاب وانقلاب الزمن علي من كانوا فيما مضي احبابه المدللين, لكن القراءة والافكار النظرية شيء, ومكابدة الحياة والصراع من اجل البقاء شيء آخر.
هل تصدقينني يا سيدة بريد الجمعة, ان اكملت لك الجزء الاخطر من قصتي؟
لقد هداني تفكيري في ازمات مادية متوالية ان احل مشكلتي بطريقة( احييني النهارده وموتني بكرة) فرحت اشتري بعض الاجهزة الكهربائية المعمرة من المعارض وادفع قسطها الاول ثم ابيعها في اليوم التالي لبعض من تخصصوا في هذا النوع من التجارة كي يتوافر معي المال بسرعة, وبأي قدر, وبعدها طبعا لا اسدد اي قسط, وهكذا كررت هذه الحيلة اكثر من مرة, وكأنني( استبيعت) كي اعيش اليوم بيومه واسدد احتياجات البيت ودراسة اولادي بأي طريقة, حتي يقضي الله امرا كان مفعولا.
لم افكر ابدا في انني امارس نصبا او اي شئ غير مشروع, بالعكس كنت قوية وثابتة تماماوكأنني آخذ من الحياة حقي الشرعي وحق اولادي.
لكن مع الاسف لم اتبع غير هذه الطريقة في التحايل علي المعايش ولم اعرف كيف يتصرف النصابون المحترفون او كيف يهربون حين تتراكم عليهم وصولات الامانة والشيكات دونما الرصيد؟
بعد اقل من عامين فشل كل تفاوض لي مع التجار والدائنين, وتحول النزاع للنيابة والقضاء وحكم علي عن عدة مخالفات بـ6 سنوات سجن.
بعد الذي عانيته لم يكن في السجن اي مشكلة غير انه فضيحة تهدد اسم وسمعة اولادي وقد صار ابني مهندسا وابنتي الكبري في الفنون التطبيقية والصغري متفوقة ومثلهما ينتظرها مستقبل واعد, وحرام ان ألطخه بسوء السمعة خاصة اننا بالفعل من اسرة محترمة وعائلة كبيرة تعلمت وعاشت في مستوي له قواعد واخلاقيات لا( يستسهل) التخلي عنها مهما تكلف الامر.
الله غالب.. دخلت السجن ولم تكن لي علاقة بالعالم الخارجي الا من خلال زيارات ابنتي الصغري, هي الوحيدة التي كانت تحن لحالي وتعذرني وتتفهم دوافعي واحساسي..
لكنني ايضا سامحت ابني المهندس وابنتي الكبري, اللذين لم يحتملا فضيحة سجني, وبعد مدة يبدو انهما اعتبراني في عداد الاموات ليحسما هذه القضية العائلية والاثنان وجدا عملا و قررا ان يطويا صفحتي ليحتملا مواجهة الحياة بلا أحزان أو أعباء زائدة.
رغم مرضي لم امت كمدا في السجن بل كتب الله لي لطفا من عنده وتدخل بعض المتطوعين من الجمعيات الخيرية والصحفيين المهتمين بقضايا( الغارمين) خاصة النساء والامهات, وبعد التسويات المادية خرجت حتي قبل نصف المدة وعدت لبيتي..( بيتي!!) أتعرفين انها المشكلة التي اعيشها الآن ؟
لقد صرت عبئا ماديا ومعنويا الآن علي اولادي وهم في بداية حياتهم العملية, كما لو كانوا نسوني وشطبوا اسمي الا من سجل الاموات في شجرة العائلة. لم أعد مدعاة للفخر ولا حتي احظي بقبول في بيتي الا عند ابنتي الصغري.. هل لأنها لم تزل صغري ولم تفكر بعد في تأثير ما فعلت علي حياتها حين تطلب العمل او الزواج او تدخل في تعامل و مواجهة مع هذا المجتمع القاسي ؟؟
ماذا أفعل؟ وماذا أعمل؟ ولمن أذهب و احكي و اقول كي يخفف الله آلامنا و نعود معا اسرة واحدة حتي لو اسرة فقيرة مكافحة؟ لماذا يتحرج اولادي مني لهذا الحد بينما الفاسدون واللصوص الكبار يعيشون بيننا( عادي جدا) لا خجل ولا اسف ولا كأنهم كانوا في صدارة عناوين الصحف وصفحات الحوادث؟
اطلت عليك وعلي قراء صفحتك الكرام, لكنني احتاج كل الاحتياج لمن يسمعني من زمن, احتاج الي وجودي بينكم واحتاج لكل ذي شعور كريم يرحم ويعذر فهل سأجد ذلك عندكم ؟!
ف.م.ق
<<<
رد الاستاذه محررة بريد الجمعه :
عزيزتي.. عشت مع قصتك وقتا طويلا, والآن انا التي لا تعرف ما الذي يتوجب علي قوله وفعله حتي اكون مفيدة ومنطقية او عادلة بالقدر الكافي معك ومع اولادك ومع كل من يقرأ ويعتبر من قصتك ايضا(!)
من قصص الحياة الواقعية قد يكتشف بعضنا ان اغرب المخلوقات علي الارض ليس السمك الملون والكائنات البحرية التي نراها في قناة( الناشيونال جيوجرافيك) واشرس المخلوقات وأعقدها ليس الذي نتابعه في( عالم الحيوان)!
الانسان هو اغرب الكائنات علي الارض, الانسان لغز
والنفس البشرية بئر عميقة, تفاجئ حتي صاحبها بردود افعال غير متوقعة ولم تخطر له علي بال. فقد يبدي في ذروة الازمة خوفا او ارتباكا و قد يبدي شجاعة فائقة او بطولة غير مسبوقة,( ونفس وما سواها), سبحان الله.. من يعلم منا حقيقة نفسه وطبعه حين يصبح في مواجهة جادة مع الحياة والموت؟
البعض يستحيل فدائيا نبيلا ومحاربا جسورا, والبعض يتحول وحشا كاسرا او ذئبا او انتحاريا كريها مخربا..
في الحقيقة ليس علينا بالضرورة ان نفهم الحياة, علينا فقط ان نعيشها علي الوجه الصحيح.
الايمان يهون الالم والعذاب ويقلل عدد الأسئلة القلقة والمستفزة والمحيرة في حياتنا, وهذا قيمة الايمان.
الايمان بوجود الله ورحمته ينقذنا في الازمات العصيبة من الاختلال النفسي والعقلي
الاختلال الاخلاقي وارد, لأن الخطأ البشري طبيعي ومتوقع, او علي الاقل يستحسن أن نتوقعه حتي لا نصدم بقدر يشل تفكيرنا ويفقدنا نعمة التسامح والتماس الاعذار لنفسنا او للآخرين.
عزيزتي المثقفة الراقية.. الزوجة العاشقة.. الأم الضعيفة.. النصابة المضطرة.. الرقيقة التي قست علي نفسها.. والسجينة التي لم تفرح بحريتها.. ايتها( الانسانة) التي كتبت لهذه الصفحة وهي في امس الاحتياج لمن يسمعها و يشاركها ويهتم لأمرها..
ستجدين في هذه المساحة من يهتم بك حقا, لسنا لأننا هنا كي نوزع( معلبات التعاطف) المحفوظة مجانا لكل عابر سبيل, ولكن لأننا بالفعل نقدر صدقك مع صعوبة وانسانية موقفك.
لاتزال الحياة تلكمنا في الوجه وتسدد لنا الضربات الموجعة وتصرعنا و تطرحنا ارضا ولكننا نختار بعد ذلك, هل نقف من جديد ام نبقي مكسورين لا نبرح اماكننا من شدة البكاء والاسف والاسي لما اصابنا..
سيدتي صاحبة الرسالة, هيا انهضي وتحركي وتابعي حياتك, لا وقت للندم ولا داعي لأن تحزني وقتا اطول مما مر عليك.
لديك مهمات يجب ان تنجزيها بكفاءة كي تستعيدي نفسك اولا ثم تستعيدي حب اولادك وفخرهم وقبولهم لوجودك كما انت بينهم.
انت متعلمة وسبق لك العمل باحدي دور النشر الكبري كما ذكرتى في رسالتك, فعليك ان تبذلي قصاري جهدك الان كي تجدي عملا مناسبا لتخصصك ومجالك وعندي احساس قوي ان الله سيوفقك كما وفق و سخر الاخرين لخدمتك وتسديد غراماتك وانت في السجن معدومة الحيلة, لا تملكين ربما غير التطلع نحو السماء بالدعاء والعشم في وجه كريم.
الحياة ولو كانت بحرا هائجا من حولك الان, فعلي الاقل اعطاك الله مركبا وجعل في يديك مجدافا, فواصلي المحاولة لانقاذ نفسك وبيتك من جديد, وسوف تجدين نورا من فنار او صوتا من سفينة تعبر, وستأتي اللحظة التي لن يتخلي عنك القدر مجددا عندما يتيقن من اخلاصك وصبرك وايمانك.
حب ابنتك الصغري سيفتح مع الوقت طريقا, وسيجلب لك طاقة خير حتي يتعلم اولادك فضيلة( الرضا بما ليس منه بد)!
ما اسهل هزيمة الانسان الذي يقاتل بمفرده, اما الذي يخلص الجهد والعمل ويتخذ الله سندا ونصيرا, فممتنع علي الهزيمة.
تفاءلي واعملي وكرري المحاولة وسلمي امرك لله, ولتكن مشيئتك يا ربي..